للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الاختصاص نحو قوله سبحانه: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: ٩٨] للدلالة على أن الينع أولى من الغض وله وجه وجيه وإن خفي على بعض الناظرين.

إِنَّ فِي ذلِكُمْ إشارة إلى ما أمروا بالنظر إليه. وما في اسم الإشارة من معنى البعد لما مر غير مرة لَآياتٍ عظيمة أو كثيرة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي يطلبون الإيمان بالله تعالى- كما قال القاضي- أو مؤمنون بالفعل، وتخصيصهم بالذكر لأنهم الذين انتفعوا بذلك دون غيرهم- كما قيل- ووجه دلالة ما ذكر على وجود القادر الحكيم ووحدته أن حدوث هاتيك الأجناس المختلفة والأنواع المتشعبة من أصل واحد وانتقالها من حال إلى حال على نمط بديع لا بد أن يكون بإحداث صانع يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته من الوجوه الممكنة على غيره ولا يعوقه ضد يعانده أو ند يعارضه، ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر هذه النعم الجليلة الدالة على توحيده وبخ من أشرك به سبحانه ورد عليه بقوله عز شأنه: وَجَعَلُوا في اعتقادهم لِلَّهِ الذي شأنه ما فصل في تضاعيف هذه الآيات شُرَكاءَ في الألوهية أو الربوبية الْجِنَّ أي الملائكة حيث عبدوهم وقالوا: إنهم بنات الله سبحانه وتسميتهم جنا مجاز لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين كالجن. وفي التعبير عنهم بذلك حط لشأنهم بالنسبة إلى مقام الإلهية.

وروي هذا عن قتادة، والسدي، ويفهم من كلام بعضهم أن الجن تشمل الملائكة حقيقة. وقيل: المراد بهم الشياطين وروي عن الحسن ومعنى جعلهم شركاء أنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم. ويروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في الزنادقة الذين قالوا: إن الله تعالى خالق الناس، والدواب، والأنعام، والحيوان، وإبليس خالق السباع، والحيات، والعقارب والشرور. فالمراد من الجن إبليس وأتباعه الذين يفعلون الشرور ويلقون الوساوس الخبيثة إلى الأرواح البشرية، وهؤلاء المجوس القائلون بالنور والظلمة ولهم في هذا الباب أقوال تمجها الأسماع وتشمئز عنها النفوس.

وادعى الإمام أن هذا أحسن الوجوه المذكورة في الآية، ومفعولا- جعل- قيل: لله، وشركاء، والْجِنَّ إما منصوب بمحذوف وقع جوابا عن سؤال كأنه قيل: من جعلوه شركاء؟ فقيل: الجن، أو منصوب على البدلية من شُرَكاءَ والمبدل منه ليس في حكم الساقط بالكلية وتقديم المفعول الثاني لأنه محز الإنكار ولأن المفعول الأول منكر يستحق التأخير. وقيل: هما شُرَكاءَ والْجِنَّ، وتقديم ثانيهما على الأول لاستعظام أن يتخذ لله سبحانه شريك ما كائنا ما كان، ولِلَّهِ متعلق بشركاء وتقديمه عليه للنكتة المذكورة أيضا على ما اختاره الزمخشري.

وقرىء «الجن» بالرفع كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الجن وبالجر على الإضافة التي هي للتبيين: وَخَلَقَهُمْ حال من فاعل جَعَلُوا بتقدير قد أو بدونه على اختلاف الرأيين مؤكدة لما في جعلهم ذلك من الشناعة والبطلان باعتبار علمهم بمضمونها أي وقد علموا أن الله تعالى خالقهم خاصة، وقيل: الضمير للجن أي والحال أنه تعالى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له. ورجح الأول بخلوه عن تشتت الضمائر ورجح الإمام الثاني بأن عود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب، وبأنه إذا رجع الضمير إلى هذا الأقرب صار اللفظ الواحد دليلا قاطعا تاما كاملا في إبطال المذهب الباطل. وقرأ يحيى بن يعمر «وخلقهم» على صيغة المصدر عطفا على الْجِنَّ أي وما يخلقونه من الأصنام أو على شُرَكاءَ أي وجعلوا له اختلاقهم للقبائح حيث نسبوها إليه سبحانه وقالوا: الله أمرنا بها وَخَرَقُوا لَهُ أي افتعلوا وافتروا له سبحانه، قال الفراء: يقال: خلق الإفك واختلقه وخرقه واخترقه بمعنى.

<<  <  ج: ص:  >  >>