للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نَهَارِي نَهَارُ النَّاسِ حَتَّى إِذَا بَدَا ... لِيَ اللَّيْلُ هَزّتْنِي إِلَيْكِ الْمَضَاجِعُ

أُقَضِّي نَهَارِي بِالْحَدِيثِ وَبِالْمُنَى ... وَيَجْمَعُنِي وَالْهَمُّ بِاللَّيْلِ جَامِعُ١

وَوَقَعَ فِي قَلْبِهَا مِثْلُ الَّذِي وَقَعَ بِقَلْبِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا يُحَدِّثُهَا، فَجَعَلَتْ تُعْرِضُ عَنْهُ، تُرِيدُ أن تَمْتَحِنَهُ، فَجَزِعَ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَخَافَتْ عَلَيْهِ وَقَالَتْ:

كِلانَا مُظْهِرٌ لِلنَّاسِ بُغْضًا ... وَكُلٌّ عِنْدَ صَاحِبِهِ مَكِينُ

فَسُرِّيَ عَنْهُ، وَقَالَتْ: إِنَّمَا أَرَدْتُ أن أَمْتَحِنَكَ، وَأَنَا مُعْطِيَةٌ لِلَّهِ عَهْدًا: لا جَالَسْتُ بَعْدَ الْيَوْمِ أَحَدًا سِوَاكَ، فَانْصَرَفَ وَأَنْشَأَ يَقُولُ:

أَظُنُّ هواها بتاركي بِمَضَلَّةٍ ... مِنَ الأَرْضِ لا مَالٌ لَدَيَّ وَلا أَهْلُ

وَلا أَحَدٌ أُفْضِي إِلَيْهِ وَصِيَّتِي ... وَلا وَارِثٌ إِلا الْمَطِيَّةُ وَالرَّحْلُ

مَحَا حُبُّهَا حُبَّ الأُلَى كُنَّ قَبْلَهَا ... وَحلَّتْ مَكَانًا لَمْ يَكُنْ حُلَّ مِنْ قَبْلُ

قُلْتُ: ثُمَّ اشْتَدَّ بَلاؤُهُ بِهَا، وَشَغَفَتْهُ حُبًّا، وَوُسْوِسَ فِي عَقْلِهِ، فَذَكَرَ أبو عبيدة: أن الْمَجْنُونَ كَانَ يَجْلِسُ فِي نَادِي قَوْمِهِ وَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ، فَيُقْبِلُ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ بَاهِتَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ لا يَفْهَمُ مَا يُحَدِّثُ بِهِ، ثُمَّ يَثُوبُ إِلَيْهِ عَقْلُهُ، فَيُسْأَلُ عَنِ الْحَدِيثِ فَلا يَعْرِفُهُ، حَتَّى قَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّكَ لَمَخْبُولٌ، فَقَالَ:

إِنِّي لَأَجْلِسُ فِي النَّادِي أُحَدِّثُهُمْ ... فَأَسْتَفِيقُ وَقَدْ غَالَتْنِي الْغُولُ

يَهْوِي بِقَلْبِي حَدِيثُ النفس نحوكم ... حتى يقول جليسي: أَنْتَ مَخْبُولُ

قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَتَزَايَدَ بِهِ الأَمْرُ حَتَّى فُقِدَ عَقْلُهُ، فَكَانَ لا يَقِرُّ فِي مَوْضِعٍ، وَلا يُؤْوِيهِ رَحْلٌ، وَلا يَعْلُوهُ ثَوْبٌ، إِلا مَزَّقَهُ، وَصَارَ لا يَفْهَمُ شَيْئًا مِمَّا يُكَلَّمُ بِهِ إِلا أن تُذْكَرَ لَهُ لَيْلَى فَإِذَا ذُكِرَتْ لَهُ أَتَى بِالْبَدَائِهِ.

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْمَ لَيْلَى شَكَوْا مِنْه إِلَى السُّلْطَانِ، فَأَهْدَرَ دَمَهُ، ثُمَّ إِنَّ قَوْمَهَا تَرَحَّلُوا مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَأَشْرَفَ فَرَأَى دِيَارَهُمْ بَلاقِعَ، فَقَصَدَ مَنْزِلَهَا، وَأَلْصَقَ صَدْرَهُ بِهِ، وَجَعَلَ يُمَرِّغُ خَدَّيْهِ عَلَى التُّرَابِ وَيَقُولُ:

أَيَا حَرَجَاتِ الْحَيِّ حَيْثُ تَحَمَّلُوا ... بِذِي سَلَمٍ لا جَادَكُنَّ رَبِيعُ


١ الأغاني "٢/ ٤٠".