أَصْوَاتَ الْجَمَاعَةِ تَقْطَعُ جِرْمَ الْهَوَاءِ أَكْثَرَ مِنْ صَوْتِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَكَذَا ذِكْرُ جَمَاعَةٍ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا فِي رَفْعِ الْحُجُبِ مِنْ ذِكْرِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَمِنْ حَيْثُ الثَّوَابِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ ثَوَابُ ذِكْرِ نَفْسِهِ وَثَوَابُ سَمَاعِ ذِكْرِ رُفَقَائِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا فِي رَفْعِ الْحُجُبِ- فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَبَّهَ الْقُلُوبَ بِالْحِجَارَةِ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: ٧٤] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَجَرَ لَا يَنْكَسِرُ إِلَّا بِقُوَّةٍ، فَقُوَّةُ ذِكْرِ جَمَاعَةٍ مُجْتَمِعِينَ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ أَشَدُّ مِنْ قُوَّةِ ذِكْرِ شَخْصٍ وَاحِدٍ ; وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ نجم الدين البكري رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إِنَّ الْقُوَّةَ فِي الذِّكْرِ شَرْطٌ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ -انْتَهَى.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: فَجَوَابُهُ أَنَّ إِحْدَاثَ الْأَلْحَانِ فِي الذِّكْرِ بِدْعَةٌ لَمْ تَكُنْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أبي بكر، وَلَا عمر، وَلَا عثمان، وَلَا علي، وَلَا فَعَلَهَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا التَّابِعِينَ، وَلَا السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، فَإِنِ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ تَمْطِيطُ الْأَحْرُفِ، وَالْإِشْبَاعُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالِاخْتِلَاسُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالتَّرْقِيصُ، وَالتَّطْرِيبُ، وَتَعْوِيجُ الْحَنَكِ وَالرَّأْسِ- فَهَذَا مُغَنٍّ لَا ذَاكِرٌ، وَأَخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يُجَابَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ بِاللَّعْنَةِ ; فَإِنَّ سِرَّ الذَّاكِرِ إِحْضَارُ عَظَمَةِ اللَّهِ وَهَيْبَتِهِ فِي الْقَلْبِ بِخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ، وَإِعْرَاضٍ عَمَّا سِوَاهُ، وَالْمُلَحِّنُ فِي شُغُلٍ شَاغِلٍ عَنْ ذَلِكَ، وَلْيَعْرِضِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَوْ وَقَفَ شَخْصٌ تَحْتَ بَيْتِهِ وَنَادَى: آهٍ يَا سَيِّدِي فُلَانُ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ بِهَذَا التَّلْحِينِ وَالتَّرْقِيصِ، أَكَانَ يُرْضِيهِ ذَلِكَ، أَوْ يَعُدُّهُ قَلِيلَ الْأَدَبِ؟ فَالتَّأَدُّبُ مَعَ اللَّهِ أَوْلَى وَأَحَقُّ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: فَأَقُولُ: مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ تَفْضِيلُ اللَّبَنِ عَلَى الْعَسَلِ ; لِأُمُورٍ: مِنْهَا أَنَّهُ يُرَبَّى بِهِ الطِّفْلُ، وَلَا يَقُومُ الْعَسَلُ وَلَا غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَيْسَ الْعَسَلُ وَلَا غَيْرُهُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. رَوَى أبو داود، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرُ اللَّبَنِ» ". وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَشْرَقُ بِهِ أَحَدٌ، وَلَيْسَ الْعَسَلُ وَلَا غَيْرُهُ كَذَلِكَ، رَوَى ابن مردويه فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ أبي لبيبة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَا شَرِبَ أَحَدٌ لَبَنًا فَشَرِقَ ; إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: ٦٦] » وَمِنْهَا «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أُتِيَ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَاخْتَارَ اللَّبَنَ، فَقِيلَ: هَذِهِ الْفِطْرَةُ أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ» - رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، فَاخْتِيَارُهُ اللَّبَنَ عَلَى الْعَسَلِ ظَاهِرٌ فِي تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ، وَمِنَ الصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://www.shamela.app/page/contribute