فإنْ قلتَ: كيفَ اتَّصل به قولُه (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ)؟ قلتُ: اتِّصالُه به على أنْ: كلُّكم تَموتون، ولا بُدّ لكم من الموت، ولا تُوفَّون أُجورَكم على طاعاتِكم ومعاصيكم عَقِيبَ مَوتِكم، وإنما توفَّونها يومَ قيامِكم منَ القُبور. فإنْ قلتَ: فهذا يوهِمُ نَفْي ما يروى: أنّ القَبْر روضةٌ من رِياضِ الجنّةِ أو حُفرةٌ من حُفَرِ النار"؟ قلتُ: كلمةُ التَّوفية تُزِيلُ هذا الوهم؛ لأن المعنى: أنّ توفيةَ الأُجور وتَكْميلَها يكونُ ذلك اليومَ، وما يكونُ قبلَ ذلك فبَعْضُ الأُجور. الزَّحْزَحةُ: التَّنْحِيةُ والإبْعاد تكريرُ الزَّحِّ، وهو الجَذْب بعَجَلة
قوله:(اتصاله به على أن: كلكم تموتون)، وتمام تقريره: أنه سبق أن قوله: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتصبير له على أذى قومه، يعني أن الرسل قاطبة كذبوا وأوذوا فصبروا حتى انكشف عنهم الكرب؛ لأن مشاق الدنيا ومتاعبها ونعيمها ولذاتها في وشك الزوال، وهو المعنى بقوله:(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)، ثم جيء بقوله:(إِنَّمَا) الدالة على الحصر لما عسى أن يتردد في الخلد: هل يتلقى كل من الرسل والمكذبين جزاء ما عمل بعد الموت؟
فقيل: نعم، يجازون جزاء غير واف؛ بأن يكون القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، وإنما يوفون أجورهم يوم القيامة جزاء وافياً، وإلى هذا المعنى ينظر قوله تعالى:(وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)[غافر: ٤٥ ـ ٤٦] ثم جيء بالفاء التفصيلية بياناً للجزاءين في قوله: (فَمَنْ زُحْزِحَ) أي: فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، ومن زحزح عن الجنة وأدخل النار فقد خاب، وفيه رد لزعم من يزعم أن لا بعث ولا حشر، وأن الأرواح المفارقة بعد الموت إما في السعادة أو الشقاوة، والحديث أخرجه الترمذي عن أبي سعيد.