الإثبات، وأَمروا بالاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، وكما عابوا أيضًا على من قابل الجهمية نفاة الصفات بالغلوّ في الإثبات، حتى دخل في تمثيل الخالق بالمخلوق، وقد بسطنا الكلام في هذا وهذا، وذكرنا كلام السلف، والأئمة في هذا في غير هذا الموضع.
ولو قال قائل: هذا مبنيّ على مسألة تحسين العقل وتقبيحه، فمن قال: العقل يُعْلَم به حُسن الأفعال وقُبحها، فإنه ينزّه الربّ عن بعض الأفعال، ومن قال: لا يُعلم ذلك إلا بالسمع، فإنه يجوز جميع الأفعال عليه؛ لعدم النهي في حقه.
قيل له: ليس بناء هذه على تلك بلازم، وبتقدير لزومها، ففي تلك تفصيل وتحقيق، قد بسطناه في موضعه، وذلك إنّا فرضنا أنّا نعلم بالعقل حُسن بعض الأفعال وقُبحها، لكن العقل لا يقول: إن الخالق كالمخلوق، حتى يكون ما جعله حَسَنًا لهذا، أو قبيحًا له، جَعَله حسنًا للآخر، أو قبيحًا له، كما يفعل مِثل ذلك القَدَرية؛ لِمَا بين الربّ والعبد من الفروق الكثيرة، وإنْ فرضنا أن حسن الأفعال وقبحها لا يُعلم إلا بالشرع، فالشرع قد دلّ على أن الله قد نَزَّه نفسه عن أفعال وأحكام، فلا يجوز أن يفعلها تارةً بخبره مثنيًا على نفسه، بأنه لا يفعلها، وتارة بخبره أنه حرّمها على نفسه.
وهذا يبيِّن المسألة الثانية، فنقول:
الناس لهم في أفعال الله باعتبار ما يصلح منه، ويجوز، وما لا يجوز منه، ثلاثة أقوال: طرفان، ووسط.
فالطرف الواحد: طَرَف القدرية، وهم الذين حجروا عليه أن يفعل إلا ما ظنّوا بعقلهم أنه الجائز له، حتى وضعوا له شريعة التعديل والتجويز، فأوجبوا عليه بعقلهم أمورًا كثيرة، وحرّموا عليه بعقلهم أمورًا كثيرة، لا بمعنى أن العقل آمر له ونَاهٍ، فإن هذا لا يقوله عاقل، بل بمعنى أن تلك الأفعال مما عُلم بالعقل وجوبها وتحريمها، ولكن أدخلوا في ذلك المنكرات ما بنوه (١) على بدعتهم في التكذيب بالقدر، وتوابع ذلك.
(١) كذا النسخة، ولعلّ الأَولى: مما بنوه. . . إلخ، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.