للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نزل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٤]، فأزعجت الآية الصحابة إزعاجًا شديدًا، وداخلَ قلوبُهم منها شيء لم يدخلها من شيء آخر؛ لأنَّهم فهموا منها أنهم سيحاسبون على كل شيء حتى حركات القلوب وخطراتها - فقالوا: يا رسول الله، أُنزِلت علينا هذه الآية ولا نطيقها - فقال لهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» (١) فجعلوا يتضرعون بهذه الدعوات حتى أنزل الله بيانها بقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦]، إلى آخر السورة المذكورة، وهنالك علموا أنهم إنما يحاسبون على ما يطيقون من شأن القلوب، وهو ما كان من النيَّات المكسوبة والعزائم المستقرة، لا من الخواطر والأماني الجارية على النفس بغير اختيار.

الحديث في مسلم وغيره، وأشار إليه البخاري في التفسير مختصرًا (٢).


(١) رواه مسلم: (١٢٥)، ولفظه: عن أبي هريرة قال: «لما نزلت على رسول الله ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٨٤]، قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله ، فأتوا رسول الله ثم بركوا على الركب، فقالوا: أيْ رسولَ الله، كُلفنا من الأعمال ما نُطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنزِلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، قال رسول الله : (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)، قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأَها القوم، ذَلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: ٢٨٥]، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله ﷿: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: ٢٨٦]، (قال: نعم)، ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ [البقرة: ٢٨٦]، (قال: نعم)، ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ [البقرة: ٢٨٦]، (قال: نعم)، ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٨٦] (قال: نعم)».
(٢) البخاري: (٤٥٤٥)، (٤٥٤٦).

<<  <   >  >>