للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= وهؤلاء الآيات إنما يدللن على انتفاء التجسيم والتشبيه. أما انتفاء يد تليق بجلاله فليس في الكلام ما يدل عليه بوجه من الوجوه.
وكذلك هل في العقل ما يدل دلالة ظاهرة على أن الباري لا "يدًا" له البتة؟ لا "يدا" تليق بجلاله ولا "يدا" تناسب المحدثات، وهل فيه ما يدل على ذلك أصلاً؛ ولو بوجه خفي؟ فإذا لم يكن في السمع ولا في العقل ما ينفي حقيقة اليد البتة؛ وإن فرض ما ينافيها، فإنما هو من الوجوه الخفية -عند من يدعيه- وإلا ففي الحقيقة إنما هو شبهة فاسدة.
فهل يجوز أن يملأ الكتاب والسنة من ذكر اليد، وأن الله تعالى خلق بيده، وأن يداه مبسوطتان، وأن الملك بيده، وفي الحديث ما لا يحصى، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولي الأمر: لا يبينون للناس أن هذا الكلام لا يراد به حقيقته ولا ظاهره، حتى ينشأ "جهم بن صفوان" بعد انقراض عصر الصحابة فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم، ويتبعه عليه "بشر بن غياث" ومن سلك سبيلهم من كل مغموص عليه بالنفاق.
وكيف يجوز أن يعلمنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى "الخراءة" ويقول: "ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به" "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" ثم يترك الكتاب المنزل عليه وسنته الغراء مملوءة مما يزعم الخصم أن ظاهره تشبيه وتجسيم، وأن اعتقاد ظاهره ضلال، وهو لا يبين ذلك ولا يوضحه؟!
وكيف يجوز للسلف أن يقولوا: أمروها كما جات مع أن معناها -المجازي هو المراد وهو شيء لا يفهمه العرب، حتى يكون أبناء الفرس والروم أعلم بلغة العرب من أبناء المهاجرين والأنصار!؟
(المقام الرابع): قلت له: أنا أذكر لك من الأدلة الجلية القاطعة والظاهرة يبين لك أن لله "يدين" حقيقة.
فمن ذلك تفضيله لآدم: يستوجب سجود الملائكة، وامتناعهم عن التكبر عليه؛ فلو كان المراد أنه خلقه بقدرته أو بنعمته، أو بمجرد إضافة خلقه إليه، لشاركه في ذلك إبليس وجميع المخلوقات.
قال لي: فقد يضاف الشيء إلى الله على سبيل التشريف، كقوله: ناقة الله، وبيت الله.
قلت له: لا تكون الإضافة تشريفًا حتى يكون في المضاف معنى أفرده به عن غيره، فلو لم يكن في الناقة من الآيات البينات ما تمتاز به على جميع النوق والبيوت لما استحقا هذه الإضافة، والأمر هنا كذلك، فإضافة خلق آدم إليه أنه خلقه بيديه يوجب أن يكون خلقه بيديه أنه قد فعله بيديه، وخلق هؤلاء بقوله: كن فيكون، كما جات به الآثار.
ومن ذلك أنهم إذا قالوا: بيده الملك، أو عملته يداك، فهما شيئان: (أحدهما) إثبات اليد، والثاني إضافة الملك والعمل إليها، والثاني يقع فيه التجوز كثيراً، أما الأول فإنهم لا يطلقون هذا الكلام إلا لجنس له "يد" حقيقة، ولا يقولون: "يد" الهوى ولا "يد" الماء، فهب أن قوله: =

<<  <  ج: ص:  >  >>