للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن نصوص سيبويه عن «بل» نصه: «وأما بل فلترك شيءٍ من الكلام وأخذٍ في غيره. قال الشاعر حيث ترك أول الحديث، وهو أبو ذؤيبٍ:

بَلْ هَلْ أُرِيكَ حُمُولَ الحيّ غاديةً ... كالنّخْلِ زَيَّنَها ينعٌ وإِفْضَاحُ [بحر البسيط]») (١).

ونلحظ في هذا النَّصّ إبانة سيبويه عن معنى «بل» الابتدائية التي تفيد الإضراب الانتقالي بقوله

«وأما بل فلترك شيءٍ من الكلام وأخذٍ في غيره»، ونلحظ أَنَّه استشهد على هذا المعنى ببيت من الشعر، وصدر هذا البيت بقوله «قال الشاعر حيث ترك أول الحديث». ومقولته هذه تدلُّ على أَنَّه وقف على القصيدة كاملة، وتتَبُّع معانيها وسياقها وعايش ملابساتها، ثُمَّ تبيَّن له أَنَّ الشاعر عند البيت المذكور قد ترك السِّياق الأوَّل أو المعنى الأول الذي بدأ به قصيدته وانتقل إلى معنى آخر. وأنَّه وجد هذه الظاهرة متكررة الحدوث؛ فقال بهذا المعنى مع «بل».

إن مقولة سيبويه «وأما بل فلترك شيءٍ من الكلام وأخذٍ في غيره» تتضمن إشارة للجانب السِّياقي لهذه الأداة، وهي وإن كانت إشارة بسيطة إلا أنَّها أوضح من التعريف الاصطلاحي الذي ذكرناه قبل للنحاة الذين أتوا من بعده.

ومن نصوص سيبويه أيضا عن هذه الأداة قوله: «والمبدل يشرك المبدل منه فى الجر وذلك قولك: مررتُ برجلٍ حِمارٍ. فهو على وجهٍ محالٌ، وعلى وجهٍ حَسَنٌ. فأَمَّا المحُالُ فأَنْ تَعنَى أنَّ الرجلَ حِمارٌ. وأَما الذى يَحسُن فهو أَنْ تقول: مررتُ برجلٍ، ثُمَّ تُبْدِلَ الحِمارَ مَكَانَ الرجل فتقولَ: حِمارٍ، إمَّا أَنْ تكونَ غلِطتَ أو نَسِيتَ فاستَدركتَ، وإمّا أَنْ يَبْدُوَ لك أَن تُضربَ عن مرورك بالرجل وتَجعلَ مكانه مرورَك بالحمار بعد ما كنتَ أردتَ غيْرَ ذلك .... ومن ذلك قولك: مررتُ برجلٍ بَلْ حمار، وهو على تفسير: مررتُ برجلٍ حِمارٍ») (٢).

في هذا النَّصّ نلاحظ أَنَّ تفسير الجملة «مررتُ برجلٍ حِمارٍ» لا يمكن بدون تدخل السِّياق، فلا يمكن أَنْ نعني بها «أَنَّ الرجل حمار»، بل لا بد من وجود «غلط أو نسيان» من المُتَكَلِّم يستتبعه استدراك لهذا النسيان أو الغلط. أو أنَّ المتكلم قال: «مررت برجل» ثم أضرب وعدل عن هذا الكلام وقال: «مررت بحمار». وأنَّ هذا التفسير هو نفسه الذي يمكن أَنْ يطلق على قولنا:

«مررتُ برجلٍ بَلْ حمار».


(١) سيبويه: الكتاب، ٤/ ٢٢٣
(٢) سيبويه: الكتاب، ١/ ٣٤٩

<<  <   >  >>