للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليهم المعتزلة بأنهم يصفونه بأنه خالق ورازق ومحيي ومميت، وعادل محسن، من غير أن يقوم به شيء من هذه المعاني، بل يقوم بغيره، لأن الاشاعرة - كما سبق في مسألة حلول الحوادث - يقولون الخلق هو المخلوق، فكيف يقولون إن الله يوصف بأنه خالق ورازق من غير أن تقوم بالله صفة، وإنما المقصود ما يخلقه الله من الخلق والرزق - لا يقولون إن الله متكلم، من غير أن تقوم به صفة الكلام والمقصود الكلام الذي خلقه في غيره؟ ولماذا لم يجعلوا هذا مثل هذا. وليس للأشاعرة جواب صحيح على هذا الاعتراض، وهو من التناقضات العديدة التي يزخر بها مذهب الأشاعرة.

أما أهل السنة والسلف فإن الفعل عندهم غير المفعول، ويقولون إن الفعل يقوم به كالكلام. ومن ثم جعلوا هذه القاعدة حجة على الفريقين: المعتزلة والأشاعرة (١) .

أما الاحتمال الأول - وهو أنه لو خلقه في نفسه لكان محلا للحوادث - فأهل السنة والجمهور يمنعون أن يسمى كل حادث مخلوقا، بل كلام الله المحدث كما قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (الانبياء: من الآية٢) ، لا يقال عنه إنه مخلوق، لأن الله يتكلم إذا شاء متى شاء بكلام بعد كلام، وكذا ما يقوم بذاته بقدرته ومشيئته، فهناك فرق بين هذه الصفات، وبين ما يكون بائنا عنه من المخلوقات، لأنها لا بد لها من خلق، أما صفة الخلق أو الكلام أو غيرهما، القائم بذاته فإنه لا يفتقر إلى خلق، بل هو حصل بمجرد قدرته ومشيئته (٢) .

ولذلك يرى شيخ الإسلام أن هذه الحجة لا داعي فيها لهذا الاحتمال - وهو أ، هـ خلقه في نفسه - بل يقال: "لو خلقه لكان إما أن يخلقه في محل فيكون صفة له، أو يخلقه قائما بنفسه وكلاهما ممتنع، ولا يذكر فيها: إما خلقه في نفسه؛ لأن كونه مخلوقا يقتضي أن له خلقا، والخلق القائم به لو كان مخلوقا لكان له خلق، فيلزم أن يكون كل مخلق مخلوقا، فيكون الخلق مخلوقا بلا خلق وهو ممتنع" (٣) .

وهذا على أصل السلف والجمهور الذين لا يسمون كل محدث مخلوقا، وأما من يجعل كل حادث مخلوقا، فيمكن أ، يرد هذا الاحتمال - الأول - فيقال: إذا أحدثه فإما أن يحدثه في نفسه أو خارجا عن نفسه، أو لا في محل. والثاني والثالث ممتنعان بإطلاق. ويبقى الأول - وهو احتمال أن يحدثه في نفسه، والأشاعرة يمنعونه لبطلان حلول الحوادث عندهم، وأهل السنة يقولون به لأنهم يجوزون أن تقوم بالله الصفات الاختيارية، وإن سماها هؤلاء أو غيرهم حوادث - ومن ثم يرجع إلى الكلام إلى ما سبق تفصيله في مسألة "حلول الحوادث" (٤) .

ولو قالوا - كما سبق مثاله في حججهم على نفي حلول الحوادث، مع مناقشته - لو قالوا هنا: الفرد من أفراد الكلام هل هو نقص أو كمال؟ فإن كان نقصا فهو ممتنع، وإن كان كمالا فهو ناقص قبله - فيقال لهم: "هو كمال وقت وجوده، ونقص قبل وجوده، مثل مناداته لموسى كانت كمالا لما جاء موسى، ولو ناداه قبل ذلك لكان نقصا، والله منزه عنه ... " (٥) .

وقد اعترف الرازي - أحد أئمة الاشاعرة - بأن حلول الحوادث لازم لجميع الطوائف فقال (٦) : "هل يعقل أن يكون محلا للحوادث؟ قالوا: إن هذا قول لم يقل به أحد إلا الكرامية. وأنا أقول: إن هذا قول قال به أكثر أرباب أهل المذاهب، أما الاشعرية: فإنهم يدعون الفرار من هذا القول إلا أنه لازم عليهم من وجوه ... " (٧) ولما جاء إلى صفة الكلام، بين أنه ليس هناك فرق معقول بين الطب والإرادة - وهذا رد على مسألة الكلام النفسي - كما سبق -


(١) انظر: مجموع الفتاوى (٦/٣١٧-٣١٨) ، ونظر: الكيلانية - مجموع الفتاوى - (٤٣٦) ، والتسعينية (ص:١٠٢-١٠٥) ، ومنهاج السنة (٢/٢٩٢) - ط دار العروبة المحققة.
(٢) انظر: مجموع الفتاوى (٦/٣٢٠) .
(٣) مجموع الفتاوى (٦/٣٢١) .
(٤) انظر: المصدر السابق (٦/٣٢٦) وما بعدها.
(٥) المصدر نفسه (٦/٣٢٦) .
(٦) سبقت الإشارة إلى هذا عند الكلام على مسألة حلول الحوادث - وإنما نقلت نص كلام الرازي هنا لأنه قد وصل إلى - حال كابة هذه المباحث - كتابه الكبير "المطالب العالمية" مطبوعا في تسعة أجزواء جاءت في خمسة مجلدات.
(٧) المطالب العالية للرازي (٢/١٠٦) .

<<  <  ج: ص:  >  >>