تجدها مشحونة بالحكم المقصودة والغايات الحميدة التي شرعت لأجلها التي لولاها لكان الناس كالبهائم بل أسوأ حالا فكم في الطهارة من حكمة ومنفعة للقلب والبدن وتفريح للقب وتنشيط للجوارح وتخفيف من أحمال ما أوجبته الطبيعة وألقاه عز النفس من درن المخالفات فهي منظفة للقلب والروح والبدن وفي غسل الجنابة من زيادة النعومة والإخلاف على البدن نظير ما تحلل منه بالجنابة ما هو من أنفع الأمور وتأمل كون الوضوء في الأطراف التي هي محل الكسب والعمل فجعل في الوجه الذي فيه السمع والبصر والكلام والشم والذوق وهذه الأبواب هي أبواب المعاصي والذنوب كلها منها يدخل إليها ثم جعل في اليدين وهما طرفاه وجناحاه اللذان بهما يبطش ويأخذ ويعطي ثم في الرجلين اللتين بهما يمشي ويسعى ولما كان غسل الرأس مما فيه أعظم حرج ومشقة جعل مكانه المسح وجعل ذلك مخرجا للخطايا من هذه المواضع حتى يخرج مع قطر الماء من شعره وبشره كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة قال:"إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان يبطشها يداه مع الماء أو مع آخر قطر فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب" رواه مسلم وفي صحيح مسلم أيضا عن عثمان بن عفان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه حتى يخرج من تحت أظفاره" فهذا من أجل حكم الوضوء وفوائده وقال نفاة الحكمة أنه تكليف ومشقة وعناء محض لا مصلحة فيه ولا حكمة شرع لأجلها ولو لم يكن في مصلحته وحكمته إلا أنه سيماء هذه الأمة وعلامتهم في وجوههم وأطرافهم يوم القيامة بين الأمم ليست لأحد غيرهم ولو لم يكن فيه من المصلحة والحكمة إلا أن المتوضئ يطهر يديه بالماء وقلبه بالتوبة ليستعد للدخول على ربه ومناجاته والوقوف بين يديه طاهر البدن والثوب والقلب فأي حكمة ورحمة ومصلحة فوق هذا ولما كانت الشهوة تجري في جميع البدن حتى أن تحت كل شعرة شهوة سرى غسل الجنابة إلى حيث سرت الشهوة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن تحت كل شعرة جنابة" فأمر أن يوصل الماء إلى أصل كل شعرة فيبرد حرارة الشهوة فتسكن النفس وتطمئن إلى ذكر الله وتلاوة كلامه والوقوف بين يديه فوالله لو أن أبقراط ودونه أوصوا بمثل هذا لخضع أتباعهم لهم فيه وعظموهم عليه غاية التعظيم وأبدوا له من الحكم والفوائد ما قدروا عليه ثم لما كان العبد خارج الصلاة مهمل جوارحه قد أسامها في مراتع الشهوات والحظوظ أمر العبودية بجميع جوارحه كلها على ربه بحظها من عبوديته فيسلم قلبه وبدنه وجوارحه وحواسه وقواه لربه عز وجل واقفا بين مقبلا بكله عليه معرضا عمن سواه متنصلا من إعراضه عنه وجنايته على حقه ولما كان هذا طبعه وذاته أمران يجدد هذا الركوع إليه والإقبال عليه وقتا بعد وقت لئلا يطول عليه الأمد فينسى ربه وينقطع عنه بالكلية وكانت الصلاة من أعظم نعم الله عليه وأفضل هداياه التي ساقها إليه فأبى نفاة الحكمة إلا جعلها كلفة وعناء وتعبا لا لحكمة ولا لمصلحة البتة إلا مجرد القهر والمشيئة وقد فتح ذلك الباب فساق الشريعة كلها من أولها إلى آخرها هذا المساق واستدل بما ظهر لك على ما خفي عنك ولعل الحكمة فيما لم تعلمه أعظم منها فيما علمته فإن الذي علمته على قدر عقلك وفهمك وما خفي عنك فهو فوق