للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا غريب، ولكن لا دليل على العبقرية إلا الغرابة دائما؛ فهي نظام لا نظام فيه؛ لأها طريقة لا طريقة لها؛ وبهذه الغرابة جاءت العبقرية كلها أمثلة وليس فيها قواعد يحتذى عليها ولا هداية فيها إلا من الروح؛ وإذا كان الفن قدرة متصرفة في الجمال، فالعبقرية قدرة متصرفة في الفن، والنابغة كالمتكيس* الذي معه قوي العقل ويريد أن يزداد على قدره منها، ولكن العبقري كالإلهي الذي معه قوى الروح ويريد أن يزيد الناس على قدرهم بها؛ وذاك مرجعه الفكر الدقيق الباحث؛ وهذا مناطه البصيرة الشفافة النافذة، وهي أغرب الغرائب في الإنسان؛ إذ هي الجهة المطلقة في هذا المخلوق المقيد، وبها تتسع الناس لإدراك المطلق الظاهر من خلال الموجودات، وفيها تتحول الأشياء من نظام الحاسة إلى نظام الروح فيسمع المرئي ويبصر المسموع، وتخلع الأجسام أنغاما، وتلبس الأصوات أشكالا، ويبدو عندها كل مخلوق وكأن فيه بقية زائدة على خلقه تركت ليعمل فيها الكاتب أو الشاعر المحدث٢ عمل فنه، الزائد على الطبيعة بالحاسة الزائدة على ذهنه، وهي التي نسميها الإلهام.

وهذه الحاسة هي كذلك من بعض الغرابة، تكون في صاحبها الموهوب كما تكون حاسة الاتجاه في الطيور التي تقطع في جو السماء إلى غاياتها البعدية من قطب الأرض إلى قطبها الآخر بغير دليل تحمله، ولا رسم تنظر فيه، ولا علم ترجع إليه؛ وكما تكون حاسة التمييز في النحل الذي يبني عسلته على هندسة ليست من كتاب ولا مدرسة، وحاسة التدبير في النمل الذي يدبر مملكته بغير علوم الممالك وسياستها؛ وكثيرا ما يجيء الأديب الملهم من حقائق الفكر وبيانه وأسرار الطبائع وأوصافها بما يغطي على فلسفة الفلاسفة وعلم العلماء، ومثل هذا العبقري هو عندي فوق العلم، لا أقول بدرجة، ولكن بحاسة.

وبالإلهام يكون لكل عبقري ذهنه الذي معه وذهنه الذي ليس معه؛ إذ كنت له من وراء خياله قوة غير منظورة ليست فيه، ومع ذلك تعمل كما تعمل الأعضاء في جسمه، هينة منقادة كأنها تتصرف على اطراد العادة بلا فكر ولا روية ولا عسر ما دامت تتجلى عليه.


* من الكيس وهو العقل فيكون عاقلا ويريد أن يزداد على مقداره.
** هذه هي الكلمة القديمة التي تقابل ما نسميه العبقري بلغة عصرنا، كأن الأشياء تحدثه بأسرارها، أو تحدثه بها قوة أعلى من القوى الإنسانية؛ وإذا كان محدثا فمعنى ذلك أنه ينطق عن سمع من الغيب؛ ومن ذلك ما زعم العرب من أن لكل شاعر شيطانا ينفث على لسانه، وهووصف دقيق للعبقرية إلا أنه باللغة الجاهلية، وقد صححه النبي صلى الله عليه وسلم فقال لشاعره حسان: قل وروح القدس معك. وفي كلمة "روح القدس" تنطوي فلسفة العبقرية كلها.

<<  <  ج: ص:  >  >>