للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

للشّرع بسكوته، معين بصمته على نفسه، وقد كان يجب عليه أن يصيح، ويمنع من طمّ البئر، كما يجب عليه أن يدفع عن نفسه من يقصد قتله.

وقوله: لا أستغيث. كقول القائل: لا آكل الطّعام، ولا أشرب الماء. وهذا جهل من فاعله، ومخالفة الحكمة في وضع الدّنيا؛ فإنّ الله تعالى وضع الأشياء على حكمة، فوضع للآدميّ يدا يدافع بها، ولسانا ينطق به، وعقلا يهديه إلى دفع المضارّ، واجتلاب المصالح، وجعل الأغذية والأدوية لمصلحة الآدميّين، فمن أعرض عن استعمال ما خلق له، وأرشد إليه، فقد رفض أمر الشّرع، وعطّل حكمة الصّانع.

فإن قال جاهل: فكيف أحترز مع أمر القدر؟

قلنا: وكيف لا يحترز مع أمر المقدّر وقد قال الله تعالى: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: ٧١]، وقد اختفى النّبيّ في الغار وقال لسراقة: «أخف عنّا» (١).

واستأجر دليلا إلى المدينة (٢)، ولم يقل أخرج على التّوكّل، وما زال ببدنه مع الأسباب، وبقلبه مع المسبّب، وقد أحكمنا هذا الأصل فيما تقدّم.

وقول أبي حمزة: فنوديت من باطني، هذا من حديث النّفس الجاهلة الّتي قد استقرّ عندها بالجهل، أنّ التّوكّل ترك التّمسّك بالأسباب؛ لأنّ الشّرع لا يطلب من الإنسان ما نهاه عنه.

وهلّا نافره باطنه في مدّ يده، وتعلّقه بذلك المتدلّي إليه، وتمسّكه به؛ فإنّ ذلك أيضا نقض لما ادّعاه من ترك الأسباب الّذي يسمّيه التّوكّل؛ لأنّه أيّ فرق بين قوله: أنا في البئر.

وبين تمسّكه بما تدلّى عليه؟


(١) أخرجه البخاري (٣٩٠٦).
(٢) أخرجه البخاري (٢٢٦٣) من حديث عائشة .

<<  <   >  >>