وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ حُجَّةً، وَإِجْمَاعُ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً بَعْدَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى بَقَاءِ كُلِّ مَنْ كَانَ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ بَعْدَ النَّبِيِّ، وَأَنْ يَعْرِفَ مَقَالَهُ كُلُّ وَاحِدٍ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُتَعَذَّرٌ جِدًّا.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ وَصْفَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ بِالْعَدَالَةِ إِنَّمَا كَانَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِمْ.
وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِيهِمَا، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ لَا غَيْرَ، لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ عُدُولٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَلْ مَعْصُومُونَ عَنِ الْخَطَأِ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ مِنْهُمْ (١) ، وَفِيهِ إِبْطَالُ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ سَنَجْعَلُكُمْ عُدُولًا، لَا أَنْ يَقُولَ جَعَلْنَاكُمْ، وَإِنْ كَانَ الْقِسْمَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَعَنِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ نَفْيًا لِلْإِجْمَالِ عَنِ الْكَلَامِ.
الثَّانِي: أَنَّ الِاحْتِجَاجَ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} بَلْ فِي وَصْفِهِمْ بِالْعَدَالَةِ، وَمَهْمَا كَانُوا عُدُولًا وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَبِهِ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَجَوَابُهُ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وَصْفِ جُمْلَةِ الْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ عَدَالَتُهُمْ فِيمَا يَقُولُونَهُ جُمْلَةً وَآحَادًا غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِي بَعْضِ الْآحَادِ فَتَبْقَى الْآيَةُ حُجَّةً فِي عَدَالَتِهِمْ فِيمَا يَقُولُونَهُ جُمْلَةً وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
(١) إِنْ أَرَادَ بِجَمِيعِ الْأُمَمِ أُمَمَ الْإِجَابَةِ، أَيْ: كُلُّ أُمَّةٍ آمَنَتْ بِرَسُولِهَا، فَالْحُكْمُ بِعَدَالَتِهَا وَعِصْمَتِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِجَمِيعِهَا أُمَمَ الدَّعْوَةِ أَيْ مِمَّا يَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَدَعْوَى عَدَالَتِهِمْ وَعِصْمَتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ الْخَطَأِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، قَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) ، وَقَالَ (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://www.shamela.app/page/contribute